الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

الحلقة التاسعة: ارتداد نفع البحث على الباحث نفسه



الحلقة التاسعة: ارتداد نفع البحث على الباحث نفسه
يشترط في التصنيف عموما أن يكون نافعا مجديا.
ومن الأهمية بمكان أن يكون هذا النفع بالنظر الأول للباحث نفسه، فإن الرسالة العلمية هي إحدى المنعطفات المهمة والأساسية في حياة الباحث، فربما بقي عمره كله في مجال بحثه يكتب ويبدع ولا يحوله عنه إلا اخترام المنية.
يحكي الدكتور أحمد شلبي: أن رسالته للدكتوراه عن تاريخ التربية الإسلامية قد فتحت أمامه آفاقا أخرى لأبحاث واسعة عن الحضارة الإسلامية قال: فكتبت مجموعة من الكتب عن السياسة والاقتصاد في التفكير الإسلامي[1])
ويقول الدكتور عبد العظيم الديب في تقدمة تحقيقه لكتاب نهاية المطلب:
·       صحبتي لإمام الحرمين:
هذا الكتاب ثمرة صحبة طويلة لإمام الحرمين، أربت هذه الصحبة على الأربعين عاما، وهذه الصحبة لم تكن على اختيار مني أو تدبير، بل العكس هو الصحيح، فقد كنت أقدِّر لدراساتي وحياتي طريقا آخر غير هذا الطريق، وميدانا غير هذا الميدان، وفعلا قدرتُ ودبرتُ، واخترت موضوع رسالتي للماجستير.
وبينا أنا في منزل أستاذي الدكتور مصطفى زيد أعرض عليه خطة الموضوع، وكان به مرحِّبا، إذ دق جرس الهاتف وأخذ أستاذي الدكتور مصطفى في محادثة طويلة، عرفتُ منها أن الذي على الطرف الآخر هو أستاذ أستاذي الشيخ محمد أبو زهرة، ولما طالت المحادثة، ووجد أستاذي أنه قد شغل عن ضيفه كثيرا، أراد أن يجاملني، فقال للشيخ أبو زهرة: عندي فلان، وهو يقرئك السلام، ثم أردف: هنئه، غدا سنعرض موضوعَ رسالته على القسم، فسأل الشيخ أبو زهرة عن الموضوع، وما إن أجابه الدكتور مصطفى حتى احتدَّ الشيخ أبو زهرة، وفهمت أنه يرفض الموضوع([2])، والدكتور مصطفى يدافع، ويقول: اطمئن يا أستاذنا، عبد العظيم من أولادنا، لا تخف، أنا أضمنه، إنه من المتحنثين [وكنت أسمع هذه الجملة أول  مرة تجري في حديث بين شخصين، وعهدي بها أنها من ألفاظ الكتب والمعاجم].
ثم انتهت المكالمة، وراح الدكتور مصطفى في صمت، ولم يقبل على ما كنا فيه من مراجعة خطة الموضوع، ولما رأى في عيني التساؤل، قال: انتهى الأمر، نبحث عن موضوع آخر، وأسقط في يدي، وظهر علي الضيق والألم، بل والغضب المتمرد، فقال الدكتور مصطفى مجيبا عن كل التساؤلات التي تمور بداخلي: أنا لا أستطيع أن أخالف أمر الشيخ أبو زهرة.
ثم أجاب عن عدة أسئلة لم أتفوَّه بها: هو رئيس قسم، وأنا رئيس قسم صحيح لكنه أستاذي، هو في كلية وأنا في كلية أخرى ولكنه أستاذي، هو لا يملك أن يمنعني من التصرف ولكنه أستاذي.
ثم قال مجاملا: والله يا عبد العظيم أنا أكثر ألما منك، ثم تمتم: ليتني ما ذكرت له الموضوع، وفعلا هزتني هذه الكلمات، وبدأ الغضب الثائر في داخلي ينزاح ويترك مكانه هدوءا وبردا وأمنا.
وهنا التمع وجه الدكتور مصطفى قائلا: اسمع يا عبد العظيم لعل الله أراد بهذا لك خيرا. ...تذكر كتاب "البرهان في أصول الفقه" تذكره لا شك. أنت نسخت لي منه صفحات منذ مدة بعيدة. ما رأيك أن تكون رسالتك تحقيق البرهان؟.....
هكذا كانت صلتي بإمام الحرمين بغير تقدير مني أو تدبير مني.....
كانت هذه هي المرحلة الأولى من تلك الصحبة المباركة مع شيخي وإمامي، إمام الحرمين، استمرت هذه المرحلة سبع سنوات مباركات، وكان من ثمرتها:
1.    دراسة طبعت وحدها بعنوان (إمام الحرمين حياته وعصره آثاره وفكره).
2.    تحقيق وتقديم كتاب (البرهان في أصول الفقه.
ثم ذكر الشيخ تفاصيل قصته في تحقيق نهاية المطلب، وفي ذلك يقول:
مضت السنون وتطاولت الأعوام وطال العمل واستطال وأنا صابر جلد ، غير ضجر ولا ملول ، بل مستمتع مسرور ، ومن حولي يعجبون ، وعن الكتاب يتساءلون : كل هاتيك الأعوام في كتاب واحد ؟؟ {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد}"لا يعرف الشوق إلا من يكابده" .
تجاوزت الأعوام الخمس والعشرين عدّا وأنا في صحبة إمام الحرمين، أعطيه ويعطيني: أعطيه وقتي وجهدي ، وصبري واتئادي وتأملي وأناتي وحبي وعشقي وشغفي وهيامي.
ويعطيني كل يوم جديدا ، يمنحني فرائد من الفقه ، ودقائق من الأصول ، وأوابد من النحو ، ونوادر من اللغة ، وشوارد من الحديث ، ويطوف بي مرابع ومجالس ومدارس أسمع فيها في أعلام أمتي وأئمتها...
وقال أيضاً:
انقطعت لهذا الكتاب عن دنيا الناس ، ووهبت له وقتي ، وجهدي ، وسري ، وعلانيتي، وبفضل من الله وعون انتصرت على نفسي ، ورددتها عما كانت تجاذبني نحوه ، وتدفعني إليه :
من المشاركة في المؤتمرات والندوات وفيها الذكر والصيت ولقاء الأعلام ووراءها ما وراءها وناهيك عن الأضواء والفلاشات
وكذلك المشاركة في التلفزة بعد أن أخذت من ذلك بنصيب وكنت مندفعا في تياره إلا أنني أمسكت وتماسكت سريعا ثم أحجمت وامتنعت امتناعا جازما .
أما الصحف والمجلات فلم يكن لنا فيها إلا أنة المكلوم ونفثة المصدور([3]).


([1])  نقلا من كتاب البحث الفقهي للدكتور إسماعيل عبد العال ص 21.
([2])  كان الموضوع عن الربا وصوره في بعض المعاملات المعاصرة، وكان المد الاشتراكي في عنفوانه، فخشي الشيخ أبو زهرة من الوقوع تحت ضغط الواقع وتبريره، وكان ذلك شائعا، وكل يحاول إلباس التأميم والمصادرة عمامة الإسلام، فمن هنا جاء رفض الشيخ رحمه الله وبرَّد مضجعه.
([3]) مقدمة كتاب نهاية المطلب في دراية المذهب  19-24

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق