الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

الحلقة العاشرة: ارتداد نفع البحث على الباحث نفسه (الجزء الثاني)



الحلقة العاشرة: ارتداد نفع البحث على الباحث نفسه (الجزء الثاني)
استتماماً لما تقدم في الحلقة التاسعة من اعتبار أن يكون البحث نافعا مجديا، فنواصل الحديث عن ذلك...
من الصور التي يظهر فيها انتفاع الباحث ببحثه ما لو تتطلب بحثه مثلاً: استعراض فتح الباري كاملا لاستخراج القواعد الفقهية، أو الإشكالات العلمية، أو النقولات من الكتب المفقودة، وأشباه ذلك، وكذلك يقال فيما لو استدعى بحثه قراءة الرسائل الفقهية لابن تيمية، أو أن يديم النظر في المسائل الأصولية لابن دقيق العيد، أو أن يبحث في المسائل المعللة للشافعي، أو جمع ودراسة التفريع الفقهي من كتاب شرح مختصر الروضة للفحل الأصولي نجم الدين الطوفي، أو أن يستقرئ المؤلفات المعاصرة في باب المقاصد.
وكثيراً ما يظهر بجلاء أثر "العَلَم المعين" الذي اشتغل الباحث بدراسة نتاجه العلمي، فإن طول صحبته معه، وتتبعه لسيرته، ووقوفه على أصوله، وإشرافه على نوادره، كل ذلك يكون له مردود إيجابي على شخصية الباحث، بل وعلى لغته، وعلى تفكيره، ففي شاطئه ترسو نفسه، وفي إطاره ترسم شخصيته، ولهذا ينبغي كعمل احترازي- أن يكون الباحث على دراية حسنة بالمؤاخذات المعروفة على بعض الأعلام حتى لا تنتقل العدوى إليه.
لكن لا إلى درجة المبالغة!
لأني وجدت بعض الأصوليين يكاد يفسر كل قضية أصولية ببعض الخلافات العقدية، وهذا من شدة تصويب النظر إلى الأثر الكلامي على علم الأصول.
وإذا وفق الباحث إلى مثل هذه الموضوعات الخصبة فالغالب أن يكون قد حجز من خلاله عدة موضوعات مثيرة لرسائله المقبلة، وربما تكون أطروحته للدكتوراه امتداداً مباركاً لرسالة الماجستير، وقد تعظم البركة، فيكون مشروعه الصغير خطة مفصلة لمشاريع كبرى.
إن الباحث في مستهل أبحاثه بحاجة إلى مثل هذه الموضوعات فهو إلى انتفاعه ببحثه أحوج من غيره، أما المجتمع العلمي فسيستفيد منه مستقبلاً بسبب ما حصل له من تأهل مناسب، فهو تأهيل ذاتي مؤقت وترحيل للنفع المتعدي إلى أجل.
أفلا يكون من الحكمة والعقل أن  يشير الأساتذة على تلامذتهم إلى مثل هذه الموضوعات التي تصقل مواهبهم وتنضج أفكارهم، وتورث الوعي في سلوكهم.
ولو لم يكن من هذه الأبحاث إلا أن تخرج لنا فقيها ألمعيا، أو محللا نصيا أو ناقدا بصير لكان ذلك لوحده إضافة دسمة إلى المشروع الثقافي الكبير.
وقد قيل لأبي حنيفة لمَ لمٍْ تؤلف؟ قال: ألفتُ أبا يوسف، ومحمد بن الحسن.
وإذا كان يطلب من البحث أن يكون نافعا ومجديا بالنسبة إلى الباحث فلأن يكون الأمر كذلك في البحث لهو أولى وأحرى.
بل إن هذا هو المقصود من البحث بالأساس، وإنما ذكرنا الأمر الأول إتماما للفائدة ولأن القصور الواقع في كثير من الباحثين يتطلب ذلك.
ويكون البحث مجديا ومفيدا إذا حصلت فيه الإضافة العلمية السابق ذكرها، ولا حاجة إلى إعادتها.
ولكن من الأهمية بمكان التنبيه على بعض بنيات الطريق، وعلى طائفة من المسالك الوعرة من ارتكاب الأخطاء التي قد تكون في بعض الأحيان فادحة، في اختيار الموضوعات والتي لا يعول من خلالها نفعا ولا جدوى بل إنه يترتب على بعضها من الإثم ما يربو على ما يرجو من نفعها.
وقد أحسَّ بها أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت790هـ.) حينما في مطلع كتابه الموفقات:
"وكل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فرع فقهي ولا سلوك أدبي فإدخالها في أصول الفقه عارية".
وإليك هذه القصة، تنبيك أصحابها عن بعض ما نحن فيه:
ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده إلى سعيد بن عمرو البرذعي، أنه قال: كنا عند أبي زرعة فاختلف رجلان من أصحابنا في أمر داود الأصبهاني ....
فأقبل عليهما أبو زرعة يوبخهما، وقال لهما: ما واحد منهما لكما بصاحب...
ثم قال: من كان عنده علم فلم يصنه ولم يقتصر عليه والتجأ إلى الكلام فما في أيديكما منه شيء،
ثم قال: إن الشافعي لا أعلم تكلم في كتبه بشيء من هذا الفضول الذي قد أحدثوه
ولا أرى امتنع من ذلك إلا ديانة وصانه الله لما أراد أن ينفذ حكمته.
ثم قال: هؤلاء المتكلمون لا تكونوا منهم بسبيل فان آخر أمرهم يرجع إلى شيء مكشوف ينكشفون عنه وإنما يكتموه أمرهم سنة سنتين ثم ينكشف فلا أرى لأحد أن يناضل عن أحد من هؤلاء فإنهم إن تهتكوا يوما قيل لهذا المناضل أنت من أصحابه وإن طلب يوما طلب هذا به لا ينبغي لمن يعقل أن يمدح هؤلاء ثم قال لي:
ترى داود هذا لو اقتصر على ما يقتصر عليه أهل العلم لظننت انه يكمد أهل البدع بما عنده من البيان والآلة ولكنه تعدى([1])
وبالمناسبة أجدني مضطراً هنا لوضع بعض الأسئلة:
ما الفائدة وراء التنقيب الدقيق عن عقائد أئمة المسلمين، واستخراج غلطاتهم وتلفيق عقائدهم، والحكم عليهم بالبراءة تارة وبحكم أهل الأعراف تارة أو أن نقف بهم في موقف الواقفة فهم في حكم أهل السنة في ما وافق فيه أهل السنة وفي حكم أهل البدعة في ما وافق فيه أهل البدعة؟
هل هؤلاء الطلاب الأكاديميون في مستهل حياتهم العلمية أهلٌ لكيل ووزن هؤلاء الأعلام بمنظار عقدي دقيق لا يكاد يرى بالعين المجردة؟
ثم ما الفائدة من الاستغراق في مناقشة بعض البدع البائدة؟ ثم تجد الباحث يعتذر عن عزلته عن بدع العصر، بأن أصول الضلالات المعاصرة ترجع إلى قواعدها القديمة!
وما الفائدة: في الجمع والحشد العشوائي لفقه الأعلام من غير الخروج بأي نتائج مفصلة؟
وما الفائدة أيضاً: من بعض الاستخراجات والمقارنات الشكلية للفوائد، إن الحاسب اليوم قد غطى كثيرا من الجوانب بحيث صارت بعض الرسائل المجهدة والمنهكة هي في حكم الماضي.
ولا أجدني بحاجة لأقول: وما الفائدة من تحقيق المحقق، ومن تسمين وحشو المصغر، ومن إعادة حرق المسائل المحترقة وقتل المسائل المقتولة، والسلسلة لا تنتهي....
هذه أمثلة سريعة من غير أي بحث أو تكلف، والسعيد من وعظ بغيره، وانج سعد، فقد هلك سعيد!.





([1]) تاريخ بغداد (9/347)،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق