الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

الحلقة الثانية: دلني يا غيري على عنوان بحثي؟


سلسلة: - دلوني على عنواني -


الحلقة الثانية
دلني يا غيري  ... على عنوان بحثي؟


نأتي الآن لمحاولة الجواب عن السؤال الذي تلكأنا مرارا في الجواب عنه، وهو معرفة طريقة الوقوف على المشكلات في العلم، والتي ينبغي أن يتصدى لها الباحثون بالتصنيف، فينظروا في حلولها.


إن الوقوف على المشكلة يتم في العادة بأحد أمرين:

1- عن طريق الباحث نفسه، وهو الأمر المفترض.

2- عن طريق آخر، قد يكون عن طريق أستاذه، أو زميله، أو غيرهما.


الحاجة هي الداعية إلى التصنيف، فإذا وقف الباحث على المشكلة بنفسه استطاع حينئذ أن يعرف سبب إشكالها، ومحل استغلاقها، والخيط الذي سيقوده إلى حلها، كما سيكون بالتأكيد عارفا بمقدار المشكلة ودرجتها، والمجال الذي يمكن له أن يسير في حلها.


فالأسباب التي دعته إلى معرفة هذه المشكلة، هي نفس الأسباب التي تدعوه إلى طريقة حلها، والتي تنتج له الإضافة العلمية، مرمى مقصوده.


مثال ذلك:

قد يقال: لا ينتظم أصل بعض الفقهاء في الاحتجاج بقول الصحابي حيث لا يطردون اعتبار الاحتجاج به، فيحتجون به تارة، ولا يحتجون به أخرى.


فبما أني استطعت أن أصل إلى هذه النقطة المحددة من المشكلة، فمن الطبيعي أن أستطيع أن أعرف حلها، لأني لم أصل إلى معرفة هذه المشكلة حتى استطعت أن أقف على جماعة من الفقهاء وقع منهم هذا الخلل، وحتى استطعت أن أدرك التقعيد الأصولي في لزوم الاطراد في اعتبار الدليل ما دام يقوم مقتضاه، وحتى استطعت أن أعرف المأخذ الأصولي في الاحتجاج بأقوال الصحابة، وهذا يدفعني إلى الوقوف على كلام العلماء في الاحتجاج به، وما إلى ذلك من المعاني التي أحاطت بإدراك أصل المشكلة.


فإدراك المشكلة هو أول الحل، كما أن هذا الإدراك هو الذي يقرر إمكان الحل، ومعرفة الداء هو أساس الدواء، ويشبه هذا قولهم: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.


لكنْ إذا كان إدراك المشكلة من طريق خارجي، فهنا تبرز مشكلات أخرى، فإن مَنْ أخبرته بأصل المشكلة السابقة في عدم الاطراد بالاستدلال بقول الصحابي، فمن المحتمل أنه لا يدرك ولا يعي كل هذه التفاصيل، نعم، قد وقف على صورة المشكلة لكنه في وسط التيه، ورآها لكن في غسق الليل، فربما أدرك صورة المشكلة ولم يدرك معناها، وربما أدرك معناها ولم يدرك حجمها، وربما أدرك حجمها ولم يدرك أبعادها.


وهنا يقع الإشكال:

وهو ما إذا تم تحديد المشكلة من طرف آخر، فالباحث الذي أخذ موضوعه من غيره لم يقف على حاجة أو مشكلة حتى يصنف لأجلها، وإنما هو احتاج إلى التصنيف لسبب أو آخر، فأعوزه ذلك إلى استشارة الآخرين حتى يوقفوه على بعض المشكلات التي تحتاج إلى حل، فانقلبت الآية، فبدل أن تكون الحاجة هي التي تدفع إلى التصنيف، صار التصنيف هو الحاجة نفسها!


العادة أنَّ مَنْ سقط على المشكلة بشكل عامودي، فهو يريد أن يطير منها كما سقط، يريد حلا سريعا ومباشرا ومختصرا، وهذا ما لا يمكن أن يكون أبدا في موضوعات الرسائل العلمية التي يقصد منها الإضافة والإنتاج إلا إذا كان على طريقة وزن الأوراق أو كيلها، فهذا ممكن، ولكن ليس له في ميزان الإضافات العلمية وإنما رواجه يكون في أسواق الورَّاقين!

إن عدم إدراك تعقيدات المشكلة يكفي في إعاقة حلها.

ويبدو أن هذا النوع من التصنيف من مبتكرات العصر! فهل كان أحدٌ من السابقين يصنف لأمرٍ لا يحسنه، وبإشارة من غيره! فحشفا، وسوء كيلة!


أمثِّل لما نحن فيه:

إذا أشار الأستاذ على التلميذ بموضوع "الحيلة الربوية"، وأن هناك لبسا في تناول هذا الموضوع، فهذا الطالب ربما أدرك هذا العنوان العريض، وعرف المشكلة، لكن هل عنده ما عند الأستاذ من صور الأغلاط الواقعة في تناول هذه المسألة، هل يتفق أصله مع أصل أستاذه في توصيف المسألة بأنها مشكلة، فثمة فريق آخر لا يراها مشكلة أصلا، بل هي عندهم محل اجتهاد ونظر، فكونها مشكلة هي محل تردد بين المعاصرين.


إذا لم تكن هذه المشكلة قد عرضت للطالب من قبل، فهو حينئذ في حاجة إلى تصور المسالة أولا، ومَنْ كان هذا حاله فهو أبعد مِنْ معرفة حلها .

فإن البحث إنما يقدم إضافة وإبداعا وابتكارا، وهذا بحاجة إلى درس وتلقي وتلقين، وبين المقامين من الفرق ما بينهما.

ثم إن المسؤول عن موضوع الرسالة قد لا يكون عارفا بالتكوين العلمي للسائل، فقد يواجه الأساتذة في محاضرة الدرس هذه الأسئلة المتكررة من الطلاب والباحثين وقد يخفى عليه درجة التأهيل العلمي لطلابه، كما قد يقع هذا السؤال بغتة عن طريق الهاتف، أو الشبكة العنكبوتية.

إن أقصى ما يمكن أن يقدمه المسؤول أستاذا كان أو غيره هو سرد بعض الموضوعات التي هي بحاجة إلى دراسة، سواء كان السائل مهيأ لها أو لم يكن، ولهذا تجد بعض الأساتذة يضنون ببعض الموضوعات التي تتطلب تكوينا معينا من الباحث.

ثم إن إفادة الباحثِ عن موضوعه يتوقف على أمور متعددة تتحكم في تشكيل الإطار العام للموضوع الذي يصلح أن يبحثه الطالب.

منها: معرفة ميول الباحث من جهة التخصص الدقيق؛ فإن العلم بحر لا ساحل له.

ومنها: معرفة القدرات العقلية والبحثية التي يتمتع بها الباحث، والأدوات التي يمتلكها.

ومنها: معرفة تعقيدات الموضوع المقترَح مِنْ قبل السائل وإشكالاته.

ومنها: معرفة المادة العلمية التي وفِّق الباحث إلى جمعها في مرحلة الطلب، فإن هذا يبين إلى حد بعيد معرفة كمية المعلومات التي يحتاجها في إعداد الرسالة.

ومنها: معرفة الرصيد السابق للباحث من الأبحاث كما وكيفا، وماهية الموضوعات التي طرقها، ومعرفة المجال الذي يمكن أن يبدع فيه، والمجال الذي لا يزال تكوينه فيه طرياً فهو بحاجة فيه إلى مزيد قراءة وتلقي.

ومنها: معرفة منهج البحث الذي يريد طرقه: هل هو البحث الاستقرائي أو البحث الوصفي أو الاستنباطي، أو النقدي، أو التاريخي، وهل هو البحث الشمولي أو البحث الجزئي التدقيقي؟

ومنها: معرفة الوقت الذي يتوفر لدى الطالب مما يسمح بإعداد البحث من جهة الطول والقصر، ومن جهة العمق والاستيعاب.

ومنها: معرفة الجدية التي يملكها الباحث في تناول البحث.

ومنها: قياس نفسية الباحث، ومدى ضيق عطنها عن تلقي المشكلة إلا من الثقب الذي يراه، أو اتساعها اتساعا فضفاضا إلى درجة تمرير المشكلة مهما كان مقاسها!

لهذه الأسباب وغيرها تجد أن كثيرا من الأساتذة يعتذرون عن إجابة الباحثين عن موضوعات رسائلهم ، بل إن بعضهم يخاف على الموضوع الذي يدور في ذهنه مِنْ أن يسيء إليه هذا الباحث، فيقتله في مهده ، فلا هو أحسن في بحثه، ولا أنه ترك غيره يسترزق منه! فيتعثر هذا المشروع البكر وهو لما يرى النور، لا لشيء إلا لأنه وسِدَ إلى غير أهله.


لذا فإن تخوّف هؤلاء الأساتذة على بنيات أفكارهم مِنْ اغتيالات العابثين، هو أمرٌ في محله، ويبقى الكلام في المبالغة إلى درجة حبسها في موضع لا يراه أحد!


وفي المقابل فإن بعض الأساتذة الفضلاء يستغرق في عدِّ دقائق الموضوعات على طلبته في قاعة المحاضرة، وهو يظن أنه أحسن إلى هؤلاء، وهذا في نظري ليس بحسن، فلو افترضنا أنَّه يملك عقارا وأراد أن يستثمره في مشروع يستغرق ماله كله، فهل يدفعه لأي أحد؟ أم أننا نجده يتخير ويتنوَّق ويتكلَّف حتى يقع على المهندس الكفء، فيتشبث به، ويدفع إليه هذا العقار مغدقاً عليه بالأموال؟


سيفعل الثاني بلا شك؛ فلماذا إذن ندفع المشاريع العلمية إلى مَنْ لا يستحقها، وهذه المشاريع العلمية أثمن، بل لا مجال للمقارنة، فإن السيف سوف ينقص قدره، بل إن هذا الأمر متعلقِّ بذمة الأمة كلها وإن كان على الكفاية.


والمفترض في هذا الأستاذ وفي كل مَنْ وفقه الله إلى معرفة النواقص في المادة البحثية أن يلبس كل قوم قميصهم اللائق بهم، فيعدل في القسمة بحسب المعايير السابقة لا على طريقة التساوي؛ فإن التساوي كما هو مقرر في حجج الإسلاميين لا يعني العدل دائما، بل قد يناقضه.


وقد أوضحت الرسائل الأكاديمية وضوحا لا لبس فيه، أن هناك قدرا كبيرا منها يحمل عناوين رنانة، وموضوعات حيوية، تعثرت مادتها العلمية، وأصيبت نتائجها بالكساح، نتيجة باحثٍ غير مؤهل لإدراك المشكلة فضلا عن معالجتها.


مَنْ كان حريصا على طلابه أو على إجابة السائل فإن له أن يثير بعض الأسئلة والنقاط التي يمكن مِنْ خلالها أن يحدد طبيعة البحث وشكله بما يمكن أن ينجح هذا الطالب المعيَّن في إعداده.


وله كذلك أن يسرد على الباحثين جملة من الموضوعات التي يتساوى الباحثون في العادة بإمكان بحثها، والضعيف أمير الركب، فيذكر الأبحاث سردا لكن على مقياس الأضعف.


وإلا، فكيف يمكن من خلال السؤال المجرَّد عبر الهاتف أو الشبكة أن يقترح الأستاذ على الباحث موضوعا معقدا في إشكاليات النقود، أو أن يشير عليه أن يعقد صلحا في صراع كاد أن يكون مسلَّحا بين مدرستين من مدراس الأصول؟!

وعودا على بدء، فإن البحث الذي يشتمل على إضافات نوعية وابتكار في الطرق والتحليل لا يقع إلا إذا كان نابعا من اختيار الباحث نفسه، لكن على المرشد أو المشرف أو الزميل أن يوضحوا للباحث الإطارات العامة في اختياره للموضوع.


يقول الدكتور شوقي ضيف في كتابه "البحث الأدبي":

إن من (أخطر الاشياء أن يبدأ الباحث حياته عالة على غيره من الباحثين الذين سبقوه فإن ذلك يصبح خاصة من خواص بحوثه، ولا يستطيع فيما بعد أن يتحول باحثا بالمعنى الدقيق لكلمة باحث، فقد انطبع بطوابع التبعية لغيره، ولم يعد يشعر لنفسه بوجود حقيقي، فوجوده دائما تابع لوجود غيره كوجود النباتات المتسلقة على الأشجار الشامخة)([1]).


كل ما سبق ليس وقوفا بصف الأستاذ على حساب الباحث، ولكن هذا الموقف في هذا الموضع، أقتضى ما ذكرت، وأما الإشكاليات التي تعرض للأساتذة فسيأتي الكلام عنها إن شاء الله.


ونلخص الجواب عن سؤال الحلقة: "دلني يا غيري على عنوان بحثي؟" 

 
الأمر المفترض: أن يكون اكتشاف العنوان عن طريق الباحث نفسه، ويمكن أن يأخذ العنوان من غيره، لكن فيه عقبات، وله شروط.

انتهت هذه الحلقة بعد أن طالت، لكن وللأسف الشديد، إلى الآن لم نستكمل الحل بعد، فما زال هناك العديد من الطلاب والباحثين الذين هم بحاجة إلى مَنْ يرشدهم إلى معرفة الموضوع، فكيف السبيل؟ وما ذكرته ههنا غير كاف ولا مقنع، وأخشى أن يكون هذا الموضوع مدرجا في جدول البحوث الناقصة التي تفتش عن "حلال المشاكل"!



([1]) نقلا من كتاب البحث الفقهي لـ إسماعيل عبد العال.
([2]) قواعد أساسية في البحث العلمي ص143.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق