الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

الحلقة الثالثة عشرة: مناسبة مادة البحث لتكوين الباحث



الحلقة الثالثة عشرة: مناسبة مادة البحث لتكوين الباحث
هذه الحلقة تابعة للحلقة السابقة، وإنما أفردتها لأهميتها الخاصة، والتي قد تفوت على الباحث عن موضوع لرسالته:
أولاً: التكوين الذهني:
قد يكون الباحث ناقدا من الدرجة الأولى، فهو يحسن إبداء الملاحظات وتسجيل الفروق، ولا تجده إلا ملاحظا ومراقبا وناقدا، لكن ليس هو في ذاك المستوى إذا أراد أن يرتجل البحث، وهو يشبه المأموم الذي لا يفوِّت غلطة لقراءة إمامه إلا ونبهه فإذا صلى بالناس أكثر من الخطأ!
هذا النوع من الباحثين يناسبه الأبحاث التي تنتهج المنهج التقويمي النقدي، كأن يختار موضوعاً في المآخذ على طريقة الأصوليين في تناول مباحث السنة، أو دراسة تقويمية لتعقبات الصنعاني على ابن دقيق العيد في العدة.
وتجد شخصيات أخرى من الباحثين مبدعين إلى الغاية في وصف الموضوع، فتجدهم ينظرون إلى الموضوع من جميع جوانبه، في تشخيص حي لصورة البحث ومادته، ويقع التفاني في استكمال الصورة على الوجه المطلوب، بل تجد أحدهم يتحسس فيما نأى عن بصره ليتخيل معنى قريبا إلى الحقيقة.
فهذا النوع من الباحثين يناسبه الأبحاث الوصفية التشخيصية.
وقد تجد باحثاً آخر، اشتغاله دوماً بتفكيك النصوص المشكلة وإعادة تركيبها بما يتسق مع موضوعية البحث، وهو مبدع في تحليل القضايا الكلية إلى قضايا صغرة محددة العناصر، وهو في نفس الوقت على درجة كبيرة من المهارة في إرجاع هذه الأجزاء المفككة إلى أجناسها الأصلية من غير أي خلط أو ارتباك.
فهذا النوع من الباحثين يناسبه الأبحاث التي تنتهج المنهج التحليلي، كأن يختار موضوعا في شخصية ابن حجر الفقهية، أو قراءة في نصوص الشافعي المفيدة لترتيب "العقد" على ظاهره.
هذا من جانب التكوين الذهني.
أما التكوين العلمي:
ولك أن تقول المعلوماتي، فهل يعتبر في اختيار الموضوع أن يكون الباحث ملما في الجملة بالبحث معلوماتيا؟
الجواب: لا، لكن الموضوعات الدقيقة يجب أن يكون الباحث على قدر حسن بحذق قواعد الباب، ومعرفة زواياه، وإلا وقع في مشكلة متكررة في الأبحاث الأكاديمية المعاصرة!
هذه المشكلة، هي أن الباحث يدخل الموضوع فيواجه بعض المسائل التي فيها عدة أقوال، وهي لا تتعلق مباشرة بموضوعه، فتجده يستغرق في بحثها، وفي المقارنة بين هذه الأقوال، وهو يريد الوصول إلى الحقيقة، وهذا بدوه يستهلك منه جهدا كبيرا، والغالب أن يكون ذلك في بداية بحثه، ويأخذ أيضاً حجما أكثر من المفترض من رسالته، وكان المطلوب أن يحكي الخلاف في الجملة، ثم يوظف القدر المطلوب فيما استدعاه بحثه.
وهنا يأتي دور المشرف، والواقع يحكي غيابا ملحوظاً لدور حقيقي للمشرف في صناعة البحث، وفي مرة من المرات أعجبني بحث في جامعة أم القرى بتحقيق إحدى الأخوات فرجعت إلى المشرف فوجده الدكتور محمد أبو الأجفان رحمه الله، فعرفت سبب الإبداع! ولكن أين مثل أبي الأجفان؟
الخلاصة: أن الأبحاث الأكاديمية المعاصرة تواجه تخمة سببها انشغال  الباحثين بحل جملة كبيرة من المشكلات التي تعترضهم، وليس بالضرورة أن تكون مرتبطة بصلب موضوع البحث.
الأمر الثالث: التكوين النفسي للباحث:
كثير من الأبحاث فسدت نتائجها فسادا عريضاً نتيجة وقوعها في مناخ صحراوي: جاف، حار صيفا، بارد قاسي شتاء، إنها درجات حادة في نفسية الباحث تقترب من درجة الغليان، فتجده يحسم الموضوع من الجولة الأولى وفي ثلاث دقائق!
تقرأ المقدمة، وكأنها تقرأ النتائج في نهاية الكتاب! تقلب الصفحة فإذا هي موعظة جمعة، أو خطبة حرب حمي فيها الوطيس يقول صاحبها: صبحكم!! مساكم!!
فلماذا البحث؟ ولماذا الجهد والتعب؟
رأيت بعضهم يتناول مسألة فقهية اختلف فيها المعاصرون على قولين، فإذا به يسوق قول المخالف على أساس الشبهة والجواب عنها!!
وهناك مسائل كبرى فيها اتجاهات مختلفة للمعاصرين، فتجد بعضهم يبحث الموضوع على أساس اتجاه واحد مستقيم افترض أنه هو الصواب!
ورأيت بعضهم تناول مسألة "المقاصد" التي اشتهر بحثها عند المعاصرين، فتناولها الأول من جهة تكييفها في التيسير، وتناولها الآخر من جهة اعتبارها ضمن النصوص، فكانت النتيجة هي ضعف الكتابين، لأن النتيجة المتحصلة = صفر، ولم نستفد من "المقاصد شيئا" فالأول الأمر عنده على اليسر والترخيص، والآخر على "حروف النصوص"، وكانت "المقاصد" لغوا عندهما، وما يقع بينهما إنما هو عملية شد الحبال، فالكل يدعيها شكلا واعتباطا وإن كان وجودها وعدمها سيان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق