الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

هل ترك الأول للآخر شيئا؟

هل ترك الأولُ للآخر شيئا؟

الرسائل العلمية ضرب من التصنيف، والتصنيف كما يقول الزركشي في قواعده:
(
فرض كفاية على من منحة الله فهمًا واطلاعًا، فلو ترك التصنيف لضيع العلم على الناس، وقد قال تعالى: { {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ...} [آل عمران: 81]، ولن تزال هذه الأمة في ازدياد وترق في المواهب والعلم) ([1]).
ومن الخطأ الفادح إنكار التصنيف على المتأخرين، وبالتالي لمز هذه الرسائل العلمية بالجملة.
يقول ملا كاتب جلبي رحمه الله:
(ومِن الناس مَنْ ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقًا، ولا وجه لإنكاره مِنْ أهله، وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار.
والله در القائل:
قل لمن لا يرى المعاصر شيئًا                      ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثًا                         وسيبقى هذا الحديث قديما
واعلم:
أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه؛ لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية، ومواهب صمدانية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما لم يدخر لكثير من المتقدمين.
فلا تغتر بقول القائل: (ما ترك الأول للآخر)، بل القول الصحيح الظاهر: ( كم ترك الأول للآخر).
فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته في ذاته، لا تقدمه وحدوثه.
ويقال: ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم: (ما ترك الأول شيئا).
لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلم،  فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر، وهو خطر عظيم، وقول سقيم، فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أمتي أمة مباركة، لا يدرى: أولها خير أو آخرها)([2]))([3]).
ويقول ابن عبد ربه في العقد الفريد:
(رأيت آخر كل طبقة واضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أهذب لفظا، وأسهل لغة، وأحكم مذاهب، وأوضح طريقة من الأول؛ لأنه ناقض متعقب، والأول بادئ متقدم) ([4]).
ويقول الدكتور يحيى بن وهيب الجبوري:
( حقا، إن الشكوى من عدم وجود جديد قديمة منذ الجاهلية حيث عنترة الذي شكا:
 هل غادر الشعراء من متردم؟
 إلى زهير الذي يقول:
وما أُرانا نقول إلا معارا....أو معادا من قولنا مكرورا ([5])).
وهاهنا أمر جدير بالتنبه له:
فإن ضرورة التصنيف لا تعني تمادي الناس فيه، فإن متعلق ضرورة التصنيف هي الأهلية المناسبة، وإلا عاد التصنيف وبالا ونكالا.
وهذا بدوره يدفعنا إلى ضرورة تأهيل الباحثين لسد ضرورة التصنيف، فإن قيمه كل امرئ هو ما يحسن.
وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله":
أن عليا رضي الله عنه قال في خطبة خطبها:
 (اعلموا أن الناس أبناء ما يحسنون، وقدر كل امرئ ما يحسن، فتكلموا في العلم تتبين أقداركم) .
قال ابن عبد البر:
"يقال: إن قول علي بن أبي طالب "قيمة كل امرئ ما يحسن" لم يسبقه إليه أحد. وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها.
وقالوا: ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل: "ما ترك الأول للآخر شيئاً".
وقال الحافظ ابن عبد البر أيضاً: قول علي, رحمه الله: "قيمة كل امرئ ما يحسن"، من الكلام العجيب الخطير، وقد طار الناس إليه كل مطير، ونظمه جماعة من الشعراء إعجابًا به وكلفًا بحسنه([6]).





([1]) المنثور في القواعد الفقهية للزركشي (3/ 35).
([2])  أخرجه ابن عساكر في تاريخه مرسلا، وفي الباب ما يعضده، وعند الترمذي: (مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره). انظر: المقاصد الحسنة للسخاوي ص 592.
([3])  قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث ص38.
([4])  قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث ص39.
([5])  منهج البحث وتحقيق النصوص ص 28.
([6]) جامع بيان العلم وفضله (مؤسسة الريان 1/198).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق