السبت، 10 أكتوبر 2015

البحث شيء والتصنيف شيء



البحث شيء والتصنيف شيء

ما كل بحث يصلح أن يكون مصنفا، فالتصنيف غير البحث في بنيته، وفي موضوعه، وفي هدفه، فالبحث يراد منه حل مشكلة معينة، أو الوصول إلى حقيقة غائبة بعدة طرق علمية مختلفة ، تكفل بالوصول إلى هدف البحث.
فهو قد يبدأ بحثه، ولا يدري أين عنوانه الآن، تائه غريب، فضلا أن يعرف طريقه، ومقصده، بخلاف المصنف الخبير، الذي يحترف مهنة صناعة التصنيف، فهو يحكي في مقدمته بريشة رسام ماهر: قصة زوايا وخبايا شكل كتابه المفترض.
في حين أن للباحثين قصة أخرى، وقد شاع بينهم التطويل في التصنيف من غير طائل، تجد أحدهم يسلك طريقا عرضيا، ثم يتبين لي أن هذا الطريق لا يوصل إلى هدفه ولو سار فيه مائة عام، فيضطر إلى سلوك طريق آخر، وقد لا يكون هذا الطريق الآخر نافذا، ولذا ربما عاد القهقرى إلى النقطة صفر، وربما يكون بتحويلة طويلة دائرية من منتصف البحث، ربما لو عادة إلى النقطة صفر كان أحسن له!
وفي أثناء رحلة البحث، قد يمر على بعض القرى لعله يجد شيئا، فلا يجد شيئا، فيبقى هذا المرور مثبتا في رحلة البحث، وقليل من المنغصات وشيء من البهارات!
وقد ينشغل أثناء رحلة البحث بأمور غير ضرورية لتحقيق موضوع البحث، فقد يتسوق، وقد يتحول إلى سائح، في استكشاف بعض المسائل، في هوى علمي، وتشوف بحثي، تدفعه طبيعته التواقة إلى المعرفة، لكن في الأخير، كل هذا لا علاقة له بموضوع بحثه.
وقد يتعب في تحقيق أمر، ثم يتبين له أنه لا داعي إلى التعرض له فضلا عن تحقيقه، لكنه يرى أنه تعب فيه! واستهلك وقته! وضاع فيه عمره! فيثبته في البحث غصبا بطريقة أو أخرى.

ويعود سبب ذلك إلى قصور عام في البنية العلمية لكثير من الباحثين، فعمرهم الزمني في تحصيل العلم ونشره لم يكن في التصنيف، ولم يأخذوا حظهم اللازم من الدربة والمران عليه.
ويظل أحدهم يحل كل مشكلة تعترضه أثناء معالجة المسائل،  بسبب ضيق عطنه، وقلة مراسه، خصوصا التي تمر عليه أول مرة، فيضطر إلى تسويد الأوراق، فيزداد الكتاب تخمة بأورامه، ويورط القراء بحمل أوزان ثقيلة، وقراءة فصول طويلة، لم تكن كذلك لولا أن المؤلف المبتكر حاس فيها واعتاص!
وكان من المفترض أن يأخذ القدر الذي يخدم بحثه، ويقتصر عليه، لكن الغالب أن الباحث يعز عليه أن يحذف الجهد الذي بذله، فيبقيه بذيوله!
ويظل على طريقته من إقحام المسائل التي تجرها اعتبارات معينة، ليس بالضرورة أن تكون مرتبطة بصلب موضوع الكتاب، فيثبت كل شيء في صلب بحثه المتخم!
ربما ضخم مبحثا من حقه أن يكون إشارة في الهامش، أو صغر مشكلة البحث، فلا يكاد يبصرها أحد، وشتت حلوله، بطريقة لا يمكن معها استجماع الإضافة المرجوة من الكتاب.
وكم من باحث وصل إلى موضع حل المشكلة الرئيسة في نهاية رحلته الطويلة، فوجد نفسه منهكا! قد انقطع نفسه! ولم يجد لها مقعدا في الأوراق المكدسة في بحثه! فيفرغ فيها حمى غضبه! فجمد عروق المشكلة! وقطع أوصالها! وشتت شملها! ويكفي فيها ما سبق أن كتبه!
هذا هو سر طول الأبحاث، وفيها خلاصة الأحزان.
وهذه هي طبيعة كثير من أبحاثنا، فهل هذه البحوث بتعرجاتها ورحلاتها ومتاهاتها، تصلح أن تكون كتابا مصنفا، يحقق للقارئ والدارس غرض موضوع الكتاب؟
ما الحل؟
الحل الجذري هو تهيئة الباحثين للبحث من الدارسة الجامعية، وإحضار المشرف الغائب ومحاسبته، فما لم يكن هناك محاسبة، فسيظل المشرف كما هو، حاضرا بوصايته على الباحث، وغائبا عن المشهد العلمي.
أما الحل المؤقت، الذي نعاني منه كلنا الآن، فهو تصحيح أبحاثنا بعد الانتهاء منها، وتحويلها من بحث متخم بالمشكلات إلى كتاب مصنف متوازن، متسلسل الأفكار.
ويحذف من البحث ما لا علاقة له بصلب الموضوع، فهل سيرضى الباحث بإتلاف جهده؟
ومن قال إن جهدك ذهب هدرا، تابع الحلقة القادمة: القابلة وتوليد الأبحاث.